الاثنين، سبتمبر 06، 2010

في معارف الناس وأقسامها بالقول المجمل على التقريب ‏


معارف الناس بالقول المجمل على التقريب تنقسم أصولها إلى الظن والوهم ، والحدس ‏والعقل ، واليقين والشك ، والغالب والسابق ، ولا إيهام والإيجاس والخاطر والسائح واللائح ، ثم أن هذه كلها تتخالف مرة ‏وتتلابس مرة ، وتترائى مرة وتتوارى ، ولن يخلص مطل من المطالب ، ولا مذهب من المذاهب ، من شوب مثلها ، على قدر ‏القلة والكثرة ، والضعف والقوة ، واللين والشدة ، وعلى حسب المزاج والهيئة ، والخلط والطبيعة ، والمنشأ والعادة ، ‏وعلى ما يعجب الإنسان من استبداده أو تقليده ، ولو خلص مظمونه من موهومه ، وتميز محسوسه من معقوله ، وانفصل ‏معلومه من مجهوله ، وبأن ملتمسه من هواه ، لكان لا يدخل الظنة في العلم ، ولا يدب الحس في العقل ، ولا يتفشى العقل في ‏الحس ، ولا يكدر الحق بالباطل ، ولا يصفو الباطل بالحق ، ولتوضحت الأشياء بأعيانها ، ونفيت من أدرانها ، وزال شك ‏الناظر في أثنائها ، ووقع على حقائقها وأنبائها ، وعاد ثلج الصدر باليقين ، معمور النفس بالسكون ، عنيا عن تأليف القياس ‏والبرهان ، وتصنيف فنون القول والبيان ، ولكن الإنسان مضروب بالظن والحدس ، ومصنوع بالعقل والحس ، ومردد بين ‏النقص والزيادة ، ومعرض في كل وقت للشقاوة والسعادة ، لا فكاك له من جميع ذلك ما دام في مسكه الطبيعي وعقله الجزئي ‏، وجله الكلي ، اللهم إلا أن يلبسه الله لباس الرحمة ، وينشيه غشاء العصمة ، فحينئذ إن قال قال الصواب ، وان فعل ‏الواجب ، وان اعتقد اعتقد الحق ، وإن هم هم بالخير ، وإن نوى نوى الجميل ، وان حث حث على الصلاح وان زجر زجر ‏عن الفساد وان لحظ لحظ العلو ، وان غض غض عن السفل ، فقال له بعض الحاضرين : فكأنه يفارق الطبيعة البشرية ، ‏وينسلخ من العوائق العنصرية ؟ ‏

فقال : يفارقها من وجه ولا يفارقها من وجه ، يفارقها بان يميت هواجسها أمانه ، ويسكن سونحها تسكيناً ، ويخمد لواهبها ‏إخماداً ، ويقتدر على بلوغ هذه الغاية اقتداراً ، ولا يفارها بأن يبقى إنساناً لا طبيعة له ولا مزاج ولا بشرية ! ‏

هذا ما يجب ولا يكون وقد ما أمكن من ذلك قدراً يجاوز كل أمنية ، ويشرف على حال سنية ، وهذه هي حال الفلاسفة ‏الكبار ، وحال البررة الأخيار ، وحال من قد خصه بالزلفى ، وأناف به على الذروة العليا واندفع في هذا وما شاكلة يقوى ‏بدر وتبر وتمر . ‏

وكان كاملاً بهذا الفن لا يؤتي فيه من عي ومس ، ولا من نقص ولبس ، وقام جلساؤه عنه في هذه العشية وكأنما قد نهلوا من ‏الخمرة الصرف والشراب العتيق ، وكان كلامه أكثر من هذا ولكن إلى ها هنا بلغ حفظي وتتبعي ، وسيمر عنه ما يشفي القرم ‏، ولا يورث السأم ،إن شاء الله تعالى . ‏


هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

عموما كلام جميل جدااا

بس كبت نوازع النفس وتهذيبها شيء صعب جداااا ايضا

ارجو ذكر المصدر :)

شكرا على الموضوع الجميل

تحياتي

فارس عبدالفتاح يقول...

المصدر هو كتاب المقتبسات لأبي حيان التوحيدي .


وهو يتكلم في هذه الموضوع عن كيفية تكوين المعارف والمعلومات والافكار عند الناس على العموم والخصوص مع اختلاف انواعهم ، ويفند الادوات العقلية والحسية التي يعتمد عليها الناس في اكتساب معارفهم ، وكذلك يعرج على الهبات التي يعطيها الله سبحانه جل شانه للانسان في هذه الامور .