معارف الناس بالقول المجمل على التقريب تنقسم أصولها إلى الظن والوهم ، والحدس والعقل ، واليقين والشك ، والغالب والسابق ، ولا إيهام والإيجاس والخاطر والسائح واللائح ، ثم أن هذه كلها تتخالف مرة وتتلابس مرة ، وتترائى مرة وتتوارى ، ولن يخلص مطل من المطالب ، ولا مذهب من المذاهب ، من شوب مثلها ، على قدر القلة والكثرة ، والضعف والقوة ، واللين والشدة ، وعلى حسب المزاج والهيئة ، والخلط والطبيعة ، والمنشأ والعادة ، وعلى ما يعجب الإنسان من استبداده أو تقليده ، ولو خلص مظمونه من موهومه ، وتميز محسوسه من معقوله ، وانفصل معلومه من مجهوله ، وبأن ملتمسه من هواه ، لكان لا يدخل الظنة في العلم ، ولا يدب الحس في العقل ، ولا يتفشى العقل في الحس ، ولا يكدر الحق بالباطل ، ولا يصفو الباطل بالحق ، ولتوضحت الأشياء بأعيانها ، ونفيت من أدرانها ، وزال شك الناظر في أثنائها ، ووقع على حقائقها وأنبائها ، وعاد ثلج الصدر باليقين ، معمور النفس بالسكون ، عنيا عن تأليف القياس والبرهان ، وتصنيف فنون القول والبيان ، ولكن الإنسان مضروب بالظن والحدس ، ومصنوع بالعقل والحس ، ومردد بين النقص والزيادة ، ومعرض في كل وقت للشقاوة والسعادة ، لا فكاك له من جميع ذلك ما دام في مسكه الطبيعي وعقله الجزئي ، وجله الكلي ، اللهم إلا أن يلبسه الله لباس الرحمة ، وينشيه غشاء العصمة ، فحينئذ إن قال قال الصواب ، وان فعل الواجب ، وان اعتقد اعتقد الحق ، وإن هم هم بالخير ، وإن نوى نوى الجميل ، وان حث حث على الصلاح وان زجر زجر عن الفساد وان لحظ لحظ العلو ، وان غض غض عن السفل ، فقال له بعض الحاضرين : فكأنه يفارق الطبيعة البشرية ، وينسلخ من العوائق العنصرية ؟
فقال : يفارقها من وجه ولا يفارقها من وجه ، يفارقها بان يميت هواجسها أمانه ، ويسكن سونحها تسكيناً ، ويخمد لواهبها إخماداً ، ويقتدر على بلوغ هذه الغاية اقتداراً ، ولا يفارها بأن يبقى إنساناً لا طبيعة له ولا مزاج ولا بشرية !
هذا ما يجب ولا يكون وقد ما أمكن من ذلك قدراً يجاوز كل أمنية ، ويشرف على حال سنية ، وهذه هي حال الفلاسفة الكبار ، وحال البررة الأخيار ، وحال من قد خصه بالزلفى ، وأناف به على الذروة العليا واندفع في هذا وما شاكلة يقوى بدر وتبر وتمر .
وكان كاملاً بهذا الفن لا يؤتي فيه من عي ومس ، ولا من نقص ولبس ، وقام جلساؤه عنه في هذه العشية وكأنما قد نهلوا من الخمرة الصرف والشراب العتيق ، وكان كلامه أكثر من هذا ولكن إلى ها هنا بلغ حفظي وتتبعي ، وسيمر عنه ما يشفي القرم ، ولا يورث السأم ،إن شاء الله تعالى .
فقال : يفارقها من وجه ولا يفارقها من وجه ، يفارقها بان يميت هواجسها أمانه ، ويسكن سونحها تسكيناً ، ويخمد لواهبها إخماداً ، ويقتدر على بلوغ هذه الغاية اقتداراً ، ولا يفارها بأن يبقى إنساناً لا طبيعة له ولا مزاج ولا بشرية !
هذا ما يجب ولا يكون وقد ما أمكن من ذلك قدراً يجاوز كل أمنية ، ويشرف على حال سنية ، وهذه هي حال الفلاسفة الكبار ، وحال البررة الأخيار ، وحال من قد خصه بالزلفى ، وأناف به على الذروة العليا واندفع في هذا وما شاكلة يقوى بدر وتبر وتمر .
وكان كاملاً بهذا الفن لا يؤتي فيه من عي ومس ، ولا من نقص ولبس ، وقام جلساؤه عنه في هذه العشية وكأنما قد نهلوا من الخمرة الصرف والشراب العتيق ، وكان كلامه أكثر من هذا ولكن إلى ها هنا بلغ حفظي وتتبعي ، وسيمر عنه ما يشفي القرم ، ولا يورث السأم ،إن شاء الله تعالى .
هناك تعليقان (2):
عموما كلام جميل جدااا
بس كبت نوازع النفس وتهذيبها شيء صعب جداااا ايضا
ارجو ذكر المصدر :)
شكرا على الموضوع الجميل
تحياتي
المصدر هو كتاب المقتبسات لأبي حيان التوحيدي .
وهو يتكلم في هذه الموضوع عن كيفية تكوين المعارف والمعلومات والافكار عند الناس على العموم والخصوص مع اختلاف انواعهم ، ويفند الادوات العقلية والحسية التي يعتمد عليها الناس في اكتساب معارفهم ، وكذلك يعرج على الهبات التي يعطيها الله سبحانه جل شانه للانسان في هذه الامور .
إرسال تعليق