البداية والنهاية .. للفلسفة العربية
قبل أن نبدأ لا بد وأن نفرق بين الفلسفة وعلم
الكلام فالفلسفة شيء وعلم الكلام شيء أخر ( أنظر الفرق بين الفلسفة وعلم الكلام )
نقطة البدء فيها حركة الترجمة التي ازدهرت في عصر الدولة
العباسية وخاصة في عه المأمون ، يهمنا في هذا الصدد ترجمة الفلسفة اليونانية، كان
بعضها قد ترجم قبل الإسلام من اليونانية إلى السريانية ، ثم ازدهرت حركة الترجمة
بعد الإسلام على أيدي الناظرة من السريان ، الذين اسهموا بنصيب وافر منها ، ونخص
بالذكر " حنين بن إسحاق " ومدرسته ، وقد شارك في الترجمة " الصابئة
" لما لهم من اهتمام بالفلسفة اليونانية ، ونخص منهم بالذكر ثابت ابن قرة .
بعد النقل والترجمة تبدأ مرحلة اتخاذ المواقف
من فكر وعلوم " الأوائل " ، أما الفقهاء والمتكلمون فقد اتخذوا موقفاً
معارضاً – راجعين على سبيل المثال معارضة " أبي سعيد السجرافي " للمنطق
اليوناني في حواره مع " أبي بشر متى بن يونس " في مجلس الوزير " ابن
الفرات " ، كما سجلها " أبو حيان التوحيدي " في كتابه ( المقابسات
) ، وكان لابد من أن ينبري من اجب بفكر اليونان وفلسفتهم لتبرير تفلسفهم بدءاً من "
الكندي " ( ينبغي ألا نستحي من طلب الحقيقة ، وأن أتت من الأجناس القاصية والأمم
المباينة لنا ) ، ثم يصف رجال الدين المعترضين على الفلسفة ، بأنهم ( تتوجوا بتيجان
الحق عن غير استحقاق ) ، وانتهاء " بابن رشد " الذي وصف الحكمة – أي الفلسفة
– بأنها ( صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة ) .
إن المهمة الأساسية لفلسفة فلاسفة الإسلام هي
التوفيق بين الدين والفلسفة ، أو بالأحرى بين العقيدة الإسلامية والفلسفة اليونانية
، بدعوى أن الغاية واحدة وهي الوصول إلى الحقيقة لا يعارض الحق – وأن اختلفا في
الوسيلة ، فوسيلة الدين : الوحي ، ووسيلة الفلسفة : العقل .
أما " الكندي " ( أبو يوسف يعقوب )
أول الفلاسفة فقد جاءت فلسفته مزجاً بين أفكار المعتزلة ونظريات الفلاسفة ، يوافق
المعتزلة في بعض أدلتهم على وجود الله وبخاصة الدليل الكوني – الاستدلال بالموجودات
على وجود الله – وعلى أن العالم محدث ، ثم يتضح تأثره بالفلسفة في وصف الله بأوصاف
غير مألوفة لدى المتكلمين ، الآنية الحقة ، العلة الأولى ، ويشايع فلاسفة اليونان
في تصورهم للكون ، وفي أن الأجرام السماوية كائنات حية عاقلة لها الحسان الشريفان
: السمع والبصر ، ويسايرهم كذلك في تصور المعرفة وأنها من مصدر علوي : العقل
والفعل .
وأما " الفارابي " ( أبو نصر محمد
طرخان ) فعنده تبدأ الفلسفة الخاصة ، أن عملية التوفيق بين الدين والفلسفة تقتضي
مسبقاً أن تكون الفلسفة واحدة لا عدة مذاهب أو تيارات متعارضة ، مادامت تعبر عن
الحقيقة – والحقيقة واحد لا تتعدد – ومن ثم كان لابد من التوفيق بين رأي الحكيمين
، وإظهار أن خلافهما ظاهري ، وربما عاونه على هذا التصور غير الصحيح ، كتب منحولة "
لأرسطو " مثل كتاب الربوبية في حين هي من واقع الأمر مقتطفات من تاسوعات "
أفلوطين " ، ويتضح المزج بين الدين والفلسفة في تصنيفه للعلوم حين أضاف إلى
تصنيف " أرسطو " المعروف ، علوماً عربية كعلم اللسان ( اللغة والنحو ) وأخرى
إسلامية كالفقه والكلام ، ولكنه ينحو نحواً يونانياً خالصاً من تصوره للكون ، وفي إقحامه
نظرية الفيض لأول مرة في الفكر الإسلامي ، ثم في تصوره للمعرفة وأنها من أعلى بدن العقل
، وتأتي نظريته نم النفس أمشاجاً من أراء " افلاطون " ، " وأرسطو
" ، والأخلاق عنده ارتقاء بالنفس
لتتصل بالعقل الفعال ، وبذلك تبلغ النفس السعادة المنشودة ، وأخيراً نظريته في
السياسة أو أراء أهل المدينة الفاضلة ، وهي بدورها ذات طابع ( يوتوبي ) استقاها من
جمهورية " أفلاطون " ، مركزاً على شخصية الحاكم الفيلسوف مضيفاً تصنيفاً
لأنواع من المدن الجاهلة حتى يتضح التباين بينها وبين المدنية الفاضلة .
وعند " ابن سينا " ( أبو علي
الحسين ) تصل الفلسفة الإسلامية إلى ذروتها وأن كان يعد هو في الحقيقة امتداداً "
للفارابي " ، غير أن بحث النفس يحتل بين فلسفته وفي مختلف كتبه مكاناً بارزاً
، حيث يخصص له عدة رسائل ، وهو يجعل للنفس وجوداً سابقاً على البدن ، في العالم
العلوي ، وأنها هبطت إلى الجسم لترتقي به ولتستفيد من العالم الأرضي ، علماً لم
يكن متاحاً لها في عالمها العلوي ، ثم تغادره إلى عالمها مشفقة عليه أول الأمر غير
آسفة بعد ذلك على الفراق ، لأنها من طبيعة غير طبيعته .
ومع أن " ابن سينا " قد جنح في
معظم جوانب فلسفته إلى الفلسفة اليونانية على حساب العقيدة الإسلامية ، مما سيثير
عليه " الغزالي " ، فيكفره هو والفلاسفة في موضوعات ثلاث : قدم العالم –
عدم علم الله بالجزئيات – عدم حشر الأجساد ، فإنه في ختام كتابه " الإرشادات
والتنبيهات " قد مال إلى التصوف مما حير الباحثين ، هل هذا الجزء غريب عن روح
فلسفته أو أنه توج فلسفته بالتصوف فغلب الطابع " الأفلاطوني " على "
الأرسطو طاليسي " ؟ .
وبتكفير الغزالي للفلاسفة ، انتهت مسيرة ذلك
الاتجاه الفلسفي الذي يرجح الفلسفة على الدين حال التعارض ، ولتتخذ الفلسفة
منعطفاً أخر ، عرف بالفلسفة الشرقية حيث تغلب الطابع " الأفلاطوني – الأفلوطيني
" ، على الطابع " الأرسطي " ، الذي يثير إشكاليات مع الدين بصدد
العلم الإلهي ، وقدم العالم وحشر الأرواح دون الأجساد ، بذلك استأنفت الفلسفة مسيرتها
في المشرق ، بدءاً من " شهاب الدين السهرودي " إلى أن تبلغ ذروتها لدى "
صدر الدين الشيرازي " .
أما في المغرب العربي ، فقد تابعت الفلسفة
سيرتها الأولى متحررة من الإشكاليات التي أثارها " الغزالي " ، وذلك لدى
كل من " ابن باجة " حيث التوازن بين تأثير " أفلاطون " وتأثير
" أرسطو " ، و " ابن طفيل " الذي قدم في قصته الرمزية ( حي بن
يقظان ) فلسفة قائمة على فكرة إمكان وصول الإنسان إلى معرفة الله ووحدانية ، دون
تلقي ذلك من أسرة أو من مجتمع ، وأن الطقوس والشعائر الدينية المتعلقة بكيفية
ممارسة العبادات هي وحدها التي لا سبيل إلى العلم بها ، إلا من خلال الأنبياء ،
وتكتمل فلسفة المغرب عند " ابن رشد " والذي يمكن حصر أهم معالم فلسفته
في اتجاهات ثلاثة :
1. عقلية نقدية مكنته من تنقيح فلسفة " أرسطو " مما علق بها من "
أفلاطونية " محدثة ثم شروح على كتب " أرسطو " جعلت منه الشارح الأكبر
.
2. دفاع عن الفلسفة ضد هجوم " الغزالي " بعد أن حررها من الغيبيات
التي كانت عالقة بفلسفة كل من " الفارابي " ، " وابن سينا "
والتي – على حد تعبير " ابن رشد " – أضاعت هيبة الفلسفة مثل نظرية الفيض
.
3. بيان خطأ المتكلمين ، وبخاصة الأشاعرة في دعواهم الدفاع عن الدين ضد
الفلسفة ، لأن أدلتهم جدلية ظنية بينما أدلة الفلاسفة برهانية يقينية ، وبذلك أمكن
إعادة مقولة التوفيق بين الفلسفة والدين .
وانتهى الفلسفة في الفكر الإسلام ليقدر لها ولفلسفة
" ابن رشد " بالذات ، أن تترجم إلى اللاتينية لتنشأ في الفكر الفلسفي الأوروبي
مدرسة " رشدية " لاتينية ، على مدى أربعة قرون يجد فيها البعض ، مثل "
موسى بن ميمون " ، خير معبر عن فكرة التوفيق بين الدين والفلسفة ، على حين
وجد نفر من اللاهوتيين من أمثال " جيوم الأقرني " والقديس " بونا
فانتورا " في مذهبة زندقة ، لأنها تنكر الخلق والعناية الإلهية والوحي
والمعجزات والبعث والخلود ، وصدر مرسوم بابوي بأمر البابا " يوحنا "
الحادي والعشرين ، بعقاب أصحاب العقائد الضالة والمقصود بذلك " الرشديون
" .
وهكذا قدر لفقه قرطبة أن يرى البعض في مذهبه جنوحاً إلى
العلمانية !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق