السبت، نوفمبر 24، 2007









وقفة مع النفس ...


إن سلطان الغيظ غشوم ، وإن حكم الغضب جائر وأضعف ما يكون العزم عن التصرف أضعف ما يكون الحزم ، والغضب في طباع شيطان الهوى يتصور في صورة امرأة ، فلا يبصر مساقط العيب ومواقع الشرف إلا كل معتدل الطباع ، ومعتدل الأخلاط مستوى الأسباب .

ولقد كنت أكره لك سرف الرضا مخافة جواذبه إلى سرف الهوى ، فما ظنك بسرف الغضب ، وبغلبة الغيظ ، ولاسيما ممن قد تعود إهمال النفس ولم يعودها الصبر ، ولم يعرفها موضع الحظ في تجرع مرارة العفو ، وان المراد من الأمور عواقبها لا عواجلها .

ومن عاقب على الصغير بعقوبة الكبير ، وعلى الهفوة بعقوبة الإصرار ، ومن لم يفرق بين الأعالي والأسافل وبين الأقاصي والأداني ، عاقب على الزنى بعقوبة السرقة وعلى القتل بعقوبة القذف ، ومن خرج إلى ذلك في باب العقاب خرج إلى مثله في باب الثواب ، ومن خرج من جميع الأوزان وخالف جميع التعديل ، كان بغاية العقاب أحق ، وبه أولى .

والدليل على شدة غيظك وغليان صدرك وقوة حركتك وإبطاء فترتك ، وبُعد الغاية في احتيالك ، ومن البرهان على ثبات الغضب ، وعلى كظم الذنب ، تمكُن الحقد ورسوخ الغيظ ، وبعُد الوثبة وشدة الوصلة .

وهذا البرهان صحيح ما صح النظم ، وقام التعديل ، واستوت الأسباب ، ولا أعلم ناراً أبلغ من إحراق أهلها من نار الغيظ ، ولا حركةً انقض لقوة الأبدان من طلب الطوائل ، مع قلة الهدوء والجهل بمنافع الجمام وإعطاء الحالات أقسامها من التدبير .

ولا أعلم تجارة أكثر خسراناً ولا أخف ميزاناً من عداوة العاقل العالم ، وإطلاق لسان الجليس المداخل ، والشعار دون الدثار والخاص دون العام .

ولقد كنت أشفق عليك من إفراط السرور فما ظنك بإفراط الغيظ وقد قال بعض الناس : لا خير في طول الراحة إذا كان يورث الغفلة ، ولا في الكفاية إذا كان يؤدى إلى المعجزة ، ولا في كثرة الغنى إذا كان يخرج إلى البلدة .


وان داء الحزن وإن كان قاتلاً فإنه داء مماطل ، وسقمه سقم مطاول ومعه من التمهل بقدر قسطه من أناة المرة والسوداء ، وداء الغيظ سيفه طياش ، وعجول فحاش ، يعجل عن التوبة ، ويقطع دون الوصية ، ومعه من الخرق بقدر قسطه من التهاب المرة الحمراء ، والعجول خطئه كما وإن ظفر ، فكيف به إذا اخفق ، على أن إخفاقه يزيد في حقيقة خطئه كما أن ظفره لا ينتقص من مقدار زلله .

لا تتعرض لعداوة عقلاء الرواة ، ولضغينة حفاظ المثالب ، وللسان من قد عرف بالصدق والتوخي ، وبقله الخطل والتنكب ، وما وجدت عن ذلك مندوحة ، ووجدت المذهب عنه أوسعاً ، ولا تعاقب وآداً وإن اضطرك الواد ، ولا تجعل طول الصحبة سبباً للتضجر ، واصبر على خلقه فان خلقه خير من جديد غيره ، وصداقة المتطرف غرور ، وملالة الصديق أفن ، والعلم بأقدار الذنوب غامض ، وحدود الذنوب في العقاب خفية ، ولن يعرف العقاب من يجهل قدر الذنب ، والإجرام وكثيرة الأشكال ، متفاوتة في الأقدار ، وإذا أردت أن تعرف مقدار الذنب إليك من مقدار عقابك عليه فانظر في علته وسببه ، والى معدنه الذي منه نجم ، وعشه الذي منه درج ، ومغرسه الذي منه نبت ، والى جهة صاحبه في التتايع والتترع ، وفى النزوع والثبات ، والى قحته عند التقريع ، والى حياته عند التعريض ، والى فطنته عند الرشق والتورية ، فإن فضل الفطنة ربما دل على فرط الاكتراث ، وعلى قدر الاكتراث يكون الإقدام والإحجام ، فكل ذنب كان سببه الدالة وضيق صدر وغلظ طباع وحدة مرارٍ ، من جهة تأويل أو من جهة غلط في المقادير ، أو من طرق فرط الأنفة وغلبة طباع الحمية ومن بعض الجفوة أو لبعض الأثرة ، أو من جهة استحقاقه عند نفسه وفيما زين له من عمله ، وانه مقتصر به مؤخر عن مرتبته ، أو كان مبلغاً عنه أو مكذوباً عليه ، وكان ذلك جائزاً عليه غير ممتنع فيه فإذا كانت ذنوبه من هذا الشكل وعلى هذه الأسباب ، وفى هذه المجاري فليس يقف عليها كريم ، ولا يلتفت لها حليم .

ولست اسميه بكثرة معروفاً كريماً حتى يكون عقله غامراً لعلمه ، وعلمه غالباً لطبعه ، وحتى يكون عالماً بما ترك وعارفاً بما اخذ ، واسم الحليم جامع للكظم ، والقدرة والفهم .

فإذا وجدت الذنب بعد ذلك لا سبب له إلا البغضة فلو لم ترضى لصاحبه بعقاب دون قعر جهنم لعذرك كثير من العقلاء ، ولصوب رأيك عالم من الأشراف .

ومتى كانت علته طبيعة البذاء ، وخلقه الشرارة والتسرع ، فاقتله قتل العقارب ، وادمغه دمغ رءوس الحيات .

فإن أنت لم تحكم له بالغاية من اجتماع هذه العلل فيه ، ومع توافيها إليه ، ولم تقض له بأقصى الغاية مع ترادف هذه الأسباب وتكامل هذه الدلائل ، وتعاون هذه البرهانات ، فكل خبر بينه زور ، وكل دلالة فاسدة ، وقد قال الأول : (( دلائل الأمور اشد تثبيتاً من شهادات الرجال )) إلا أن يكون في الخبر دليل ، مع الشهادة برهان ، لأن الدليل لا يكذب ولا ينافق ولا يزيد ولا يبدل ، وشهادة الإنسان لا تمتنع من ذلك ، وليس معها أمان من فسادٍ ما كان الإمكان قائماً .

إن الكلام إنما صار أفضل من الصمت ، لأن نفع الصمت لا يكاد يعدو الصامت ، ونفع الكلام يعم القائل والسامع ، والغائب والشاهد ، والراهن والغابر .

وقالوا : ومما يدل من فضل الكلام على الصمت ، انك بالكلام تخبر عن الصمت وفضله ، ولا تخبر بالصمت عن فضل الكلام ، ولو كان الصمت أفضل لكانت الرسالة صمتاً ، ولكان عدم القرآن أفضل من القرآن .

وليس يصارع الغضب أيام شبابه وغرب نابه شيء إلا صرعه ، ولا ينازعه قبل انتهائه وإدباره شيء إلا قهره ، وإنما يحتال له قبل هيجه ويتوثق منه قبل حركته ، ويتقدم في حسم أسبابه وفى قطع علله ، فإما إذا تمكن واستفحل ، وأذكى ناره واشتعل ، ثم لاقى ذلك من صاحبه قدرة ، ومن أعونه سمعاً وطاعة ، فلو سعطته بالتوراة ، ووجرته بالإنجيل ، ولددته بالزبور ، وأفرغت على رأسه القرآن إفراغا، واتيته بآدم عليه السلام شفيعاً لما قصر دون أقصى قوته ، ولتمنى أن يعار أضعاف قدرته .

وقد جاء في الأثر : إن اقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب ، قال قتادة : ليس يسكن الغضب إلا ذكر غضب الرحمن عز وجل ، وقال عمرو بين عبيد : ذكر الرب يمنع من الغضب ، إلا أن يريد الذكر باللسان .

فلا تقف بعد مضيك في عقابي التماسا للعفو عنى ولا تقصر عن إفراطك من طريق الرحمة لي ، ولكن قف وقفة من يتهم الغضب على عقله والشيطان على دينه ، ويعلم أن للعقل خصوماً وللكرام أعداء .

وان النصف أن تنتصف لعقلك من خصمه ، وتنتصف لكرمك من عدوه ، وتمسك إمساك من لا يبرئ من الهوى ، ولا يبرئ الهوى من الخطأ ، ولا تنكر لنفسك أن تزل ، ولعقلك أن يهفو ، فقد زل آدم عله السلام وهفا ، وعصى ربه وغوى ، وغره عدوه وخدعه خصمه ، وعيب باختلال عزمه وسكون قلبه إلى خلاف ثقته ، هذا وقد خلقه الله بيده ، واسكنه في دار أمنه ، واسجد له ملائكته ، ورفع فوق العالمين درجته ، وعلمه جميع الأسماء بجميع المعاني ، ولا يجوز أن يعلمه الاسم ويدع المعنى ، ويعلمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه ، والاسم بلا معنى لغو ، كالظرف الخالي ، والأسماء في معنى الأبدان والمعاني في معنى الأرواح ، واللفظ للمعنى بدن ، والمعنى للفظ روح ، ولو أعطاه الأسماء بلا معانٍ لكان كمن وهب شيئاً جامداً لا حركة له وشيئاً لا حس فيه ، وشيئاً لا منفعة عنده .

ولا يكن اللفظ اسماً إلا وهو مضمن بمعنى ، وقد يكون المعنى ولا اسم له ، ولا يكون اسم إلا وله معنى .

فإذا زعمت أن الله تبارك وتعالى علم آدم الأسماء كلها بمعانيها ، فإنما تعني نهاية المصلحة لا غير ذلك ،

هذا آدم هو الشجرة ، وأنت ثمرة ، وهو سماوي وأنت ارضي ، وهو الأصل وأنت الفرع ، والأصل أحق بالقوة والفرع أولى بالضعف .

فلست أسالك أن تمسك إلا ريثما تسكن إليك نفسك ، ويرتد إليك ذهنك ، وحتى توازن بين شفاء الغيظ والانتفاع بثواب العفو ، وترى الحلم وما يجلب من السلامة وطيب الأحدوثة ، وترى تضرم الغضب وما يفضي لأهلة من فضل القوة .

على أن العقل إذا تخلص من سكر الغضب أصابه ما يصيب المخمور إذا خرج من سكر شرابه ، والمنهزم إذا عاد إلي أهله ، والمبرسم إذا أفاق من برسامه .

وما اشك أن العقل حين يطلق من إساره كالمقيد حين يفك من قيوده يمشي كالنزيف ، ويحجل كالغراب ، فإذا وجب عليك أن تحذر على عقلك مخامرة داء الغضب بعد تخلصه ، وان تتعمده بالعلاج بعد مباينته له وتخلصه من يده ، فما به أسير في ملكه ، وصريع تحت كلكله ، وقد غطه في بحره ، وغمره بفضل قوته .



من رسائل الجاحظ



هناك 7 تعليقات:

واحد مصرى يقول...

كلا م جميل....بس لما هو الموضوع كدة كيف تفسر تعليقك المسرف في الوقاحةو النابية على مدونة اسمها حفصةالتي لا اعرفها و لا أعرفك...بالمناسبةانا أكتشفت الموضوع بالصدفة اثنا تفقدي لمدونة ذو النون و تعجبت من التعليق الصادم..بصراحة لم يكن تعليقا بالمعنى المفهوم بل شتيمة صريحةو مسرفة في التدني...لا اتصور ان لك الحق فيما فعلت لكن بفرضية ان كان لك ان تقول ما قلت فمن الواضح انها نجحت في استفزازك...ليس هكذا تورد الابل.

فارس عبدالفتاح يقول...

شكراً جزيلاً ايها المصري

نعم قد استفزتني فأسرفت على نفسي ولهذا قد كتبت هذه الكلمات للجاحظ واعيدها على نفسي .

واخاف ان ترجع وتعاود الكره وتستفزنى مره اخرة

فانا لا املك ميزة الحلم

واعلم تمام العلم انه ليس هكذا تورد الابل ..

لكن هذا ما كان وكما يقول الشاعر

فوا أسفاه علي مني

واحد مصرى يقول...

اشكرك على تفهم وجهة نظري...عندما قرات موضوع وقفة مع النفس احسست انك و كأنك تكلم نفسك أو تفكر بصوت عال ان من يكتب ما كتبت في مدونتك لا يستدرج هكذاو لن يستدرج مرة اخري...لكن من منا لا يزل....وفقك الله يا عزيزي
و دمت بخير

فارس عبدالفتاح يقول...

ايها المصري

جذاك الله خير واحسن اليك على تفهمك للموقف

وتقبل كل التحية والتقدير

DantY ElMasrY يقول...

عاوزين نعمل قفلة للموضوع دا
علشان كدا خد اكتر من حقه وكل واحد معاه عزره
عاوزين نهدى النفوس وعموما التحقيق فى هالموضوع مافيش منه فايده
وياريت محدش يكتب ورايا انه مش غلطان أو إن حد تانى غلطان
انقلو بقى الله يخرب بيوتك
حتى ذو النون كتب بوست جديد ياللا علقوا عليه

ذو النون المصري يقول...

fcxفارس
بالنسبه لزعلك اني شهرت بيك او بغيرك انا لم اكتب اي اسماء في البوست و لم يكن لدي اي علم علي الاطلاق بان هناك اخرين لديهم علم بالموضوع فكتبت باعتبار ان الموضوع في اشخاص لا يعرفهم احد
لان الزميله ارسلت لي التعليق و اعتبرته امر خاص بيني و بينها و لم اتوقع ان الكل عارف
..........
انا نزلت البوست الجديد قبل الرد علي التعليقات لاني فوجئت بتعليقات كثيره وجدت ان المفروض يكون فيه وقفه قبل الرد عليها و لقد رددت عليها الان
.............
اسعدني في ردك الاعتراف بالخطا و الوقوف مع النفس في هذا البوست وارجو ان لا يتكرر اي فلتان اعصاب مره ثانيه و موقفك كان افضل عندي من موقف شخص اخر شارك في الموضوع و اعتبر نفسه لم يخطيء
..........
المهم
انا نزلت بوست ثاني بعد البوست اياه و كما قال دانتي
اقفلوا الموضوع و ملهوش داعي تكرار فتحه
............
سلام

فارس عبدالفتاح يقول...

حضرتك

عاوز تفهمنا أو توحي لي ولغيري بالطبع أن حضرتك شاب فلاح صاحب حكمة وحليم وصاحب فطنه وتعرف كيف تدير حوار ..

برافو

قد ينخدع غيري بهذا الأسلوب ،، لكن مع الأسف أنا اعرف عقلية الفلاحين زين يا أخي الفاضل واعرف كيف يستخدمون الحيل العفنه في الإيقاع بأي احد ممن تريدون أن توقعوا به ( مكر الفلاحين ) .

المهم يا شناوي

أنت لم تجبني على وسؤالي يا سعادة الحكيم الحليم الذكي .

لماذا كتبت موضوع عن هذه المشدات التي حدثت ،،، مع أن جنابكم قلت بالحرف الواحد انك لان تدخل في هذا الموضوع ..

فما تفسيرك لهذا ..

أنا عن نفسي لدي تفسير ومن واقع تعليقك في مدونتي ومقتنع به وأصبح أمر راسخ في عقلي تجاه أي إنسان ينتمي إلى وجه بحري وهذا عن طريق العشرة في مصر وفى خارج مصر ..

ياريت لو كان عند سعادتكم وجنابكم وسيادتكم وحضرتكم الشجاعة الأدبية أن تجيب على هذا السؤال وأنا اشك في ذلك وإذا فعلت فلاً تقول الحق والحقيقة .


وان حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل

وحضرتك لم تعلم ما جري فكيف حكمت يا أستاذ الحكمة والحلم والحق والحقيقة ..


حضرتك تشهد لنفس بانك ...... عاقل

استغفر الله العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ... اللهم أكفنا شر أنفسنا